البداية والنهاية في الرواية العربية
البداية والنهاية في الرواية العربية
التحميل أسفل الموضوع
البداية والنهاية في الرواية العربية لأشهبون
علي القاسمي
اصدر عن دار رؤية للنشر والتوزيع في القاهرة كتاب جديد بعنوان ” البداية والنهاية في الرواية العربية” (1) للناقد المغربي الدكتور عبد المالك أشهبون، أستاذ التعليم العالي للنقد الأدبي في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين في مكناس. ويقع الكتاب في أزيد من 400 صفحة، ويهمُّ الروائيَّ والناقدَ وطلابَ الأدب العربي عموماً.
المؤلِّف:
د. عبد المالك أشهبون من أبرز النقاد العرب المعاصرين، ومن أعمقهم دراسة لمختلف الظواهر السردية ومدارس النقد الغربي الحديثة، ومن أغزرهم إنتاجاً وعطاءً. فلا تمرُّ سنةٌ دون أن يصدر له كتاب. فمنذ سنة 2005 حتى يومنا هذا صدر له اثنا عشر كتاباً، أي بمعدل أكثر من كتاب واحد في العام. وقد نُشِرت كتبه في بلدان عربية مختلفة مثل الأردن، والإمارات، والجزائر، والسعودية، وسوريا, ولبنان، والمغرب، ومصر.
أولى الدكتور أشهبون اهتمامه، بصورة رئيسية، لمكوِّنات روائية لم تحظَ بالدراسة الكافيةً، مثل عتبات النص الروائي: العنوان، الغلاف، تعيين الجنس الأدبي، الإهداء، الاقتباس الافتتاحي، المقدمة، كلمة الناشر، إلخ.، بل خص بعضها بكتابٍ كامل، كما فعل في كتابه ” العنوان في الرواية العربية” (2)، ذلك لإيمانه بأهمية الوظائف التي يضطلع بها العنوان: التشويقية، والإيحائية، والجمالية، والبلاغية، وغيرها. ويأتي كتابه الجديد في هــــذا الإطــــار.
ولد المؤلِّف سنة 1960 ونشأ في بلدة ناس الجبل، قبيلة إيغزران، بلدية صفرو، إقليم فاس بولمان. ويقع مكان ولادته في قلب سلسلة جبال الأطلس المتوسط، في وسط المغرب. وهذه المنطقة من أجمل مناطق المغرب، مشهورة بمناظرها الخلابة التي تطرزتها الجبال الشاهقة حيث يبلغ ارتفاع بعض قممها أكثر من ثلاثة آلاف متر، وتنتشر فيها الشلالات والوديان والسهول والوهاد والهضاب والمروج الخضراء ذات المراعي العامرة، وتكثر فيها البحيرات الجميلة الزاخرة بأنواع الأسماك، وتحيط بها غابات أشجار الأرز التي تعدّ أوسع غابات الأرز في العالم، والتي لا تخلو من الحيوانات غير المستأنسة.
ومن شأن هذه الطبيعة البديعة أن تشحذ مواهب الأطفال الفنية، وتنمي ملكاتهم الجمالية. ونجد أثر ذلك واضحاً في كتابات الدكتور أشهبون، إذ إنه يزاول النقد لا كدرس علمي جاف بل يحوِّله إلى إبداع أدبي متميز، فيجمع بين الإفادة العلمية والإمتاع الفني. فعندما يتحدَّث، مثلاً، عن البداية الزمنية باعتبار أن الزمن أحد مقولات الحكي التي يوظّفها الروائي في بناء الرواية، يقول عن الطفولة إنها ” زمن (التصورات الأصلية) باعتبارها أحسن الأشياء: كالحنين للعهود الحميدة التي توجد في تلافيف طبقات النفوس، تتلذذ بتخيّلها وذكرها، وتتألم من انقضائها … فهذا الزمن الماضي لا يعدو أن يكون مجرد ذكريات يلوذ الروائي بحماها، بعيداً عما يحدث في الحاضر، فتتداخل الحدود بين الماضي والحاضر، لتصبح مراتع الصبا هي الأفضية الوارفة الظلال التي تشكل بؤرة السرد ومنطلقه.” (3)
وهكذا نــــــرى أن أســـلوبه مزيّن بالصور البلاغـــية الأخــاذة التــــي تجعل مــن نصـــــه إبداعــاً جمـــــيلاً بالإضافــــة إلـــى كونــــه فكــــراً أصيلاً.
وبعد أن نال المؤلّف شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ ظهر المهراز ـ في جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس سنة 1986، عمل أستاذاً للغة العربية وآدابها في المدارس الثانوية.
بدأ عبد المالك أشهبون مشواره النقدي في الثمانينيات في نقد الشعر، ولكنه تحوّل بعد مدة قصيرة إلى نقد السرديات: رواية، قصة، محكي عربي قديم، وغيرها. ويعود هذا التحول إلى أسباب عديدة أهمها:
أولاً، إدراكه أن الرواية العربية تمرُّ بمرحلة ازدهار من حيث غزارة الإنتاج الذي يسهم فيه كتّاب من أجيال مختلفة، وذوو توجهات فكرية متباينة. ويعود السبب في ذلك إلى أن طبيعة الرواية بوصفها جنساً أدبياً في صيرورة مستمرة ومفتوحاً على كل الأجناس الفنية الأخرى، بحيث تستطيع توظيف تقنيات تعبيرية مستمدَّة من المسرح والسينما والتشكيل وغيرها. وهو من النقاد العرب الذين تنبأوا بأن الرواية العربية تتجه إلى مزيد من التركيز على الحياة الشخصية للمؤلف. وهذا ما تناوله في كتابه القيم ” من خطاب السيرة المحدود إلى عوالم التخييل الذاتي الرحبة”(4) الذي صدر عام 2007، واعتبر فيه أن السيرة نوع من أنواع السرد، فنادى إلى تبني شعار “زمن السرد” بدلاً من ” زمن الرواية” الذي كان شائعاً في الأوساط الأدبية. فالسرد، في نظره، لا يشمل القصة والرواية فحسب، بل يضمُّ كذلك ما يُكتَب في مجال السيرة الذاتية والغيرية من مذكرات، واعترافات، وحفريات، وصور قلمية (بورتريهات)، وشهادات، ومشاهدات، وغيرها.
ثانياً، بعد سنة من تخرجه في الجامعة، صدر كتاب الناقد الفرنسي جيرار جينيت ” عتبات ” (5). وقد أثار هذا الكتاب موجة من الكتابات المتناسلة المتعالقة، لا في فرنسا وحدها بل كذلك في بلدان المغرب العربي، حيث يطَّلع الكتّاب مباشرة على توجُّهات الأدب والنقد الفرنسيين. ولهذا نجد أن أولى الكتب العربية التي تناولت عتبات الكتابة صدرت في المغرب العربي مثل كتاب ” عتبات النص: البنية والدلالة”(6) للناقد المغربي المتميز الدكتور عبد الفتاح الحجمري. ومن هنا وجد عبد المالك أشهبون أن معظم الدراسات النقدية في المغرب آنذاك تتناول الرواية تنظيراً وتطبيقاً، فرجحت لدية كفة النقد السردي على النقد الشعري.
ثالثاً، عندما عاد عبد المالك أشهبون إلى جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس لمواصلة دراساته العليا، تتلمذ على الناقد المترجم المغربي المعروف الدكتور رشيد بنحدو الذي كان يشتغل على مجال السرد لا الشعر، وأعدّ أشهبون أطروحته بإشرافه حول ” عتبات الكتابة في الرواية العربية” ونال عنها الدكتوراه سنة 2002 وكانت أول أطروحة جامعية عربية حول العتبات، ونشرها سنة 2009 (7). ففي مصر، مثلاً، نجد أن أول أطروحة جامعية أعدت حول الموضوع نفسه، أطروحة الدكتور عزوز علي إسماعيل التي قدمت إلى جامعة الزقازيق سنة 2013 ونُشرت سنة 2014 (8). وفي كتابه عن العتبات، تناول أشهبون بعض العتبات التي لم يتطرق إليها جيرار جينيت في كتابه الرائد لأسباب معرفية أو فنية مثل الرسوم والصور التوضيحية التي اعتبرها قارة هائلة ينبغي إيلاؤها الاهتمام الذي يناسب ثراءها.
أصبح الدكتور أشهبون متخصصاً في الرواية العربية قديمها وحديثها بعد أن درسها في جميع أطوارها ومختلف توجهاتها. فقد توقَّف مليا عند خصائص الرواية التقليدية منها في كتابه ” زوايا ظليلة في روايات نجيب محفوظ” (9)، كما تعمَّق في استكناه مظاهر التجديد في الخطاب الروائي المعاصر في كتابه ” الحساسية الجديدة في الرواية العربية” (10)، وهذا ما يلخِّصه لنا كتابه ” الرواية العربية من التأسيس إلى النص المفتوح” (11).
يستخلص القارئ من مؤلفات الدكتور أشهبون حول الرواية أن جميع ما في الرواية سواء كان مركزياً كالنصِّ العمدة أو هامشياً كالعتبات، يخدم إستراتيجية الكتابة، وهو جدير باهتمام الناقد. ويرى أن أهمَّ الظواهر الفنية التي شاعت مؤخَّراً في الرواية العربية هي التخييل الذاتي، والواقعية الجديدة، واستثمار التراث، واستخدام العجائبية (الفانتستيك)، وإضفاء النفس الشاعري على لغة السرد.
بيد أن عمل الدكتور أشهبون لم يقتصر على الرواية العربية الحديثة فقط، بل شمل أيضاً المحكيات العربية التراثية كالمقامات. فقد وزعت مجلة ” تراث ” الإماراتية كتابه ” تطريز الحكاية في المقامات” (12) هديةً مع أحد أعدادها العام الماضي. وقد درس فيه نصوص المقامات من حيث كونها فناً قصصياً ممتعاً ومشوقاً يطفح ببنياتٍ سردية زاهية، وقيمٍ فنية وجمالية منقطعة النظير. كما ألّف كتاباً عن ” الخطاب الافتتاحي في القرآن الكريم” (13) وزعته مجلة ” العربية ” السعودية هديةً مع أحد أعدادها، وكأني به يمهِّد بهذا الكتاب لكتابه الجديد موضوع مقالنا، ” البداية والنهاية في الرواية العربية”. فالأدب العربي الحديث مثل خليج من المرجان واللآلئ، موصول الموج لا يمكن النظر فيه وتذوقه بمعزل عن منابعه الأولى كالشعر الجاهلي والقرآن الكريم، وبدون معرفة الروافد التي صبت فيه طوال عصور مختلفة؛ ومَن يتصدى لدراسته لا بد له أن يتزود من تلك المنابع والروافد أولاً.
وبوصفه باحثاً مفكراً، فإن الدكتور أشهبون يحمل هموم أمته في عقله وقلبه ووجدانه، إذ يحزنه تخلّف هذه الأمة المجيدة، ويرى أنَّ هذا التأخر نابع من حقيقة أن الفكر العربي لم يقطع مع سلبيات الماضي، فقد ظل أسير فكر خرافي موروث عن عصور الانحطاط، يرسّخ الاستبداد والتضييق على حرية الفكر، ويؤدي إلى تكريس الأمية وانتشار الفقر، ويشكِّل عائقاً أمام تكوين مجتمع (العقل) وسيادة (العلم) وثقافة ( الحرية) وتحقيق التنمية البشرية. ويرى أن فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر في أوربا استطاعوا أن يُحدِثوا نقلة نوعية في بلدانهم أدت إلى تطوُّر مجتمع المعرفة والعلم والصناعة والحداثة في الاجتماع والسياسة حيث تعتبر المواطنة بمثابة عقد قانوني بين الدولة والأفراد ترتِّب لهم حقوق على الدولة وتفرض عليهم واجبات بصورة متساوية، بغض النظر عن أصلهم وجنسهم ولونهم وانتمائهم ومعتقداتهم. بيدَ أن التنظيرات الفكرية التي بشَّر بها مفكرون تنويريون عرب أمثال محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، وحسن حنفي، ومحمد أركون، لم تستطع أن تثمر بسبب هيمنة ظواهر الاستبداد المتحكِّمة في التوجهات الاجتماعية والسياسية في بلداننا. فظل الفكر العربي هشّاً لا يستطيع تقديم رؤية مستقبلية تسهم في تحرُّره ومن ثم تحرير العقل المجتمعي؛ ولم تتبلور آراء هؤلاء المفكرين العرب التنويريين على صعيد الممارسة في النظام السياسي لإنتاج الديمقراطية والتقدم. ولا بُدّ لنا من إحداث قطيعة معرفية مع عصور الانحطاط(14).
الكتاب:
عندما أشبع الدكتور أشهبون عتبات النص بحثاً في كتبه ودراساته النقدية السابقة، تحوَّل إلى مكوِّنات النص المركزي نفسه، فتناول في هذا الكتاب مكوِّنَي البداية والنهاية. فقد انتبه إلى أن الحقل النقدي العربي صبَّ جلَّ اهتماماته على النص الروائي في مستوياته المعروفة: الشخصيات، السرد، الزمان، المكان…، ويندر أن نجد انشغالاً ملحوظاً ، سواء على مستوى التنظير أو التطبيق، بمكوِّنيْن نصييْن ستراتيجيْن في بناء الرواية، “البداية” و” النهاية”، اللذين لا يقلان أهمية عن باقي مكوّنات النص. فما قبل البداية فراغ، والبداية انتقال من الصمت إلى الحكي، وما بعد النهاية فراغ. فالبداية والنهاية تحتلان موقع الإطار، إذ يضعان الحدود المادية للنص. إضافة إلى استعمالاتهما المتعددة، ووظائفهما المتنوعة، ورهاناتهما الفنية التي تختلف من روائي إلى آخر، ومن حساسية روائية إلى أخرى. ولا يُنكَر أن سؤال كل من البداية والنهاية ينتصب شامخاً أمام كل روائي يفكِّر في وضع اللمسات الأولى أو الأخيرة في رحلة الرواية الطويلة.
ويراهن الروائي على البداية في تيسير ولوج القارئ إلى عالم النص الروائي مفاجآته، وجذب اهتمامه، وبناء عالم الخيال وإطلاق الأحداث، وإضفاء الحركية عليها. أما النهاية فتستطيع أن ترضي توقعات القارئ وتلبي أفق انتظاره أو تخييبه، حسب دربة الروائي ونوعية المتلقي وعاداته القرائية. وتكمن أهمية البداية والنهاية كذلك في علاقتهما الوظيفية بالعتبات وترابطهما الوثيق مع النص المركزي، الذي يسميه الدكتور أشهبون بالنص العمدة.
غرض الكتاب ومنهجيته:
تكمن أهمية كتاب ” البداية والنهاية في الرواية العربية” في أهدافه وموضوعه ومنهجيته العلمية والنتائج التي توصّل إليها مؤلِّفه. فالكتاب يرمي إلى تقديم نظرية نقدية رصينة عن خطاب البداية وخطاب النهاية في الرواية العربية، وإبراز دورهما الفاعل في اشتغال النص الروائي، وتأثيره في المتلقّي، فكراً وذائقة.
واعتمدت منهجية مؤلِّفه على الطريقة الاستقرائية التحليلية، إذ قام بمسح شامل للروايات العربية في جميع أقطار العروبة منذ ظهور الرواية العربية حتى يومنا هذا، واستخلاص بداياتها ونهاياتها، وتصنيفها حسب معايير شكلية ونوعية وأسلوبية من حيث بنياتها النصية ووظائفها، ثم قام بتحليلها والكشف عن علاقاتها البنيوية مع بقية مكوِّنات النص الروائي وخصوصا العلاقات القائمة بين البداية والنــــهاية فــــي كــــل روايــــة
ما هي البداية؟
من بداية الكتاب، يواجه المؤلِّفُ القارئَ بإشكالية محيرة، إذ يطرح عليه السؤال تلو السؤال حول تعريف البداية وحدِّها: هل المقصود بالبداية الجملة الأولى في الرواية؟ أم الفقرة الأولى في الرواية؟ وحتى إذا افترضنا أن الجملة الأولى هي البداية، فما تعريفنا للجملة؟ وما معيارنا لتحديدها؟ هل هو معيار طباعي يحدد الجملة بوصفها مجموعة كلمات محصورة بين نقطتين؟ وماذا عن التعالق بين جملة سردية وجملة تالية لها؟ أو أن معيارنا دلالي يتطلَّب اكتمال المعنى في كتلة من الكلمات؟ أو أن معيارنا دلالي سردي يتطلب اكتمال الفكرة الأولى في ذهن القارئ؟ وماذا نفعل إذا لم يستعمل الروائي علامات الترقيم بالطريقة التقليدية فلم يستعمل النقطة بتاتاً في نهاية الجمل؟ أو لم يقسّم نصه إلى فقرات؟
إن هذه الطريقة السقراطية في طرح الأسئلة، طريقة فعالة في إشراك القارئ في التأليف من خلال تفكيره في الجواب، ومحاولته اختيار المعيار الأفضل. فالمؤلِّف يظل يُمطر القارئ بأسئلة مشروعة محيّرة، حتى يشرأب القارئ بنظره وعقله إلى المؤلّف متطلِّعاً للحصول على جوابٍ شافٍ منه. وهنا يفصح المؤلِّف عن رأيه الذي يفترض وجود علامات نصية نسبية توحي للقارئ بحدوث الانتقال من بداية النص إلى عرضه. وتأتي هذه العلامات على شكل تعيينات من نوع خطي كنهاية فقرة أو نهاية فصل، أو عبارات دالة مثل ” إذن، بعد هذه البداية، بعد هذا التقديم”، أو الانتقال من مقطع سردي إلى مقطع وصفي أو بالعكس، أو حصول تغيُّر في المستوى السردي، أو حصول تبدُّل في موضوع التبئير، أو الانتقال من لحظة حوارية إلى لحظة نصية او بالعكس، أو تغيُّر في زمن الحكي أو في فضائه.
وأخيراً، يحصل الانطباع لدى القارئ أن معيار تحديد البداية في نظر المؤلّف ليس شكلياً ولا دلالياً، بل سردياً تقنياً على الأغلب. وللقارئ أن يوافق المؤلّف على ما ذهب إليه أو يختلف معه.
أنواع البدايات:
تتنوع البدايات في الرواية العربية من حيث طولها، كما في روايات نجيب محفوظ، أو من حيث قصرها، كما في رواية “مجمع الأسرار” لإلياس خوري الذي اكتفى بعبارة واحدة: ” بدأت الحكاية هكذا:”. كما تتنوع البداية من حيث أساليبها، فقد تكون خبرية سردية أو تكون حوارية، كما فعل مبارك ربيع في روايته ” الريح الشتوية “. كما تختلف البدايات من حيث تبئيرها على شخصية من الشخصيات أو حدث من الأحداث أو مكان من الأماكن. كما تتباين البدايات من حيث قوة علاقتها بالعتبات. ففي رواية ” الحي اللاتيني ” لسهيل إدريس تبدأ الرواية على الوجه التالي:
” الحي اللاتيني. كانت صورته المتخيلة تملأ أفكاره ومشاعره…”
فالبداية هي العنوان نفسه. وقد تكون البداية تتمة لجملة العنوان، كما في رواية ” ترمي بشرر” لعبده خال، إذ جاءت البداية تكملة لجملة العنوان الناقصة:
” قصر بهيج هو جنة جحيمية ترمي بشررها على جحيم الحارات البائسة في جدة”.
وفي المقابل، ثمة بدايات يكون ارتباطها بالنص المركزي أوثق من ارتباطها بالعنوان، كما في رواية ” حادث منتصف متر” لصبري موسى، التي جاءت بدايتها تلخيصاً للرواية، وكُتبت تلك البداية كما يُكتب الشعر لا كما يكتب النثر.
ومن خلال دراسته لأدب السجون، لاحظ الدكتور أشهبون أن معظم البدايات في تلك الروايات، ركزت على لحظة ” الخروج” من السجن، فرواية ” الوشم ” لعبد الرحمن مجيد الربيعي تبدأ بتنفس كريم الناصري هواء الشارع بعد اختناق عريض…”
وظيفة البداية:
ومن ناحية وظيفية، يقسّم الدكتور أشهبون البدايات الروائية إلى بدايات قارة/جامدة تقدّم المعلومات اللازمة لتشكيل عالمٍ متخيَّل، كما في معظم روايات نجيب محفوظ، وبدايات متحرِّكة، كالبداية المباشرة التي تلقي بالقارئ فوراً في لجة الأحداث. وللبداية المتحركة المباشرة أنواع مختلفة حوارية، كما في رواية ” تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم؛ وصفية، كما في رواية “وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر، وميتاروائية، كما في رواية ” يحدث في مصر الآن” ليوسف القعيد. وقد ظهر هذا التنوع في البدايات الروائية نتيجة للتفاعل بين الفن الروائي والفن السينمائي، واستفادة الأول من التقنيات السينمائية واستثمارها في النصوص الروائية. ولا ننسى استفادة الروائيين من فنون الرسم والموسيقى والشعر.
خاتمة أم نهاية؟:
يفرّق بعضهم بين الخاتمة والنهاية. فالخاتمة هي إعلان عن إغلاق النص الروائي الذي ليس من الضروري أن يكون قد بلغ نهايته فعلاً. فهناك نصوص لها بدايات ولكن ليس لها نهايات، بل لها خواتيم تغلق النـص ولا تنجـــح فـــي إغلاق اشتــــغاله فــــي ذهــــن المتلقــــي.
أما النهاية فتمثل ذلك الموضع الذي يُفترض أن تكتمل فيه الأحداث، ويسدل الستار على مجرياتها، ويغلق نظام الإشارات وتكتمل رسالة الروائي. وكما قلنا، فإن النهاية قد ترضي توقعات القارئ أو تخيّب أفق انتظاره.
أنواع النهايات:
في الروايات التقليدية، تُرتب الأحداث والوقائع ترتيباً زمنياً حتى تنتهي إلى خاتمة بحيث تسير الأحداث في تتابع منطقي من البداية المشوّقة حتى النهاية المفرحة أو الحزينة. ففي أول هذا النوع من الروايات تُطرح الأسئلة وتأتي الإجابة عليها في النهاية. ولهذا فالنهاية في موقع حاسم حيث تنحلُّ عقدة الأحداث وتجد المشاكل حلولاً لها. فالنهاية هنا تفرض حلاً للعقدة وتقرِّر مصيراً للشخصيات. والنهاية في الروايات التقليدية إما سعيدة (زواج، عودة مظفرة، اعتقال القاتل، العثور على الكنز، إلخ.) أو مأساوية ( فشل البطل، موت البطل، فقدان الحبيب، إلخ.). فبعض القراء يفضِّلون النهايات السعيدة التي تملؤهم بالتفاؤل في الحياة، وبعضهم الآخر يفضِّل النهايات المأساوية التي تحفر شاهداً في صدورهم لا يُنسى.
بيدَ أن كتّاب الرواية العربية الجديدة، وبدافع التجريب والتغيير، حاولوا التخلُّص من حبكة الرواية التقليدية ( بداية، وعقدة، وحل)، وتجريب أبنية رواية مختلفة، مثل البناء الدائري أو المتقطِّع، حيث حوّلوا الخاتمة من النهاية/ الحلّ إلى النهاية المفتوحة، متذرعين بأن الحياة لا نهاية لها، والرواية مجرَّد صفحة من كتاب الحياة.
خاتمة:
يُحسَب لهذا المؤلَّف النقدي أنه كتاب فيه جدَّة وسبق نقدي، على الخصوص مبحث النهاية في الرواية العربية، بحيث لم يسبق لنا أن اطلعنا على كتاب بهذا التخصيص والتركيز والتنوع في مجال النهاية في الرواية العربية. كما أن من بين مزايا هذا الكتاب الجمع بين التنظير والتطبيق في عرض المادة النقدية، مع الحرص على استحضار آخر مستجدات النقد في هذا المجال.
خلاصة القول، إن كتاب ” البداية والنهاية في الرواية العربية” أبدعه أحد كبار النقاد العرب المتخصِّصين في فن الرواية، العارفين بأسرارها، الملمِّين بأبنيتها وأساليبها وتقنياتها. ويستمدُّ القارئُ متعةً كبيرة من الاطلاع على طرائق الروائيين المختلفة الرامية إلى جذب انتباه القارئ وتشويقه والاحتفاظ به حتى النهاية، وإدراكه فحوى الرسالة التي حاول الكاتب تبليغها إليه. والكتاب مفيد للقارئ المثقَّف، والناقد المتخصِّص، والروائي نفسه.
Post a Comment